ذكر التليفزيون الدانماركي الأسبوع الماضي أن التحقيقات التي تجريها المحكمة العليا الإيطالية حول خطف الإمام المصري أسامة مصطفى حسن نصر "أبو عمر" من أحد شوارع ميلانو في فبراير 2003 بمعرفة الـ CIA والذي جرى تسليمه لمصر لاستجوابه، قادت إلى التوصل لعمليات اختطاف أخرى قامت بها الوكالة كعملية اختطاف المهندس طلعت فؤاد قاسم "أبو طلال" في سبتمبر 1995.
وللتذكير فإن عملية اختطاف المهندس طلعت فؤاد قاسم أحد قيادات الجماعة الإسلامية في مصر والذي كان حاصلا على حق اللجوء السياسي في الدنمارك، تمت في العاصمة الكرواتية زغرب التي وصلها بتأشيرة نظامية حصل عليها من سفارة كرواتيا في بروكسل على وثيقة سفره الدنماركية، وقد منح التأشيرة بعد فترة انتظار دامت عدة أسابيع تمت فيها الموافقة على منحه تأشيرة الدخول من وزارة الخارجية الكرواتية، حيث جرى اعتقاله في نفس الليلة التي وصل فيها بمعرفة المخابرات العسكرية الكرواتية بأوامر من الـ CIA ، بينما كان يبيت في منزل طبيب عراقي يؤجر غرفة في منزله وكان جارا للمترجم الكرواتي من أصل فلسطيني الذي استقبل أبو طلال في المطار والذي كان يفترض أن يرافقه في رحلته القصيرة إلى كرواتيا والبوسنة حيث رتب له هذا المبيت، بعدما فشلوا في إيجاد غرفة في أحد الفنادق في تلك الليلة حيث كانت المدينة تشهد معرضا تجاريا أدى لازدحام الفنادق. حيث جرى نقله بعد ذلك إلى مصر التي تعرض فيها لتعذيب بشع أدى لوفاته.
لقد كان أبو طلال –رحمه الله- يعد كتابا عن مأساة البوسنة، وأراد نقل الحقيقة كما يعيشها أهل البوسنة يومها، وكانت رحلته مدتها عشرة أيام حيث كان يحجز للعودة سريعا ترقبا لولادة زوجته، التي وضعت بالفعل بعد اختطافه بأيام طفله الرابع الذي أتم الآن عامه العاشر ولم يقدر له أن يرى أباه. ولا تزال عائلته تعيش في الدنمارك.
وبعد إنكار طويل ومزاعم ساقطة من النظام الكرواتي الذين زعموا في روايتهم الرسمية في حينه أنه جرى اعتقاله في أحد ساحات العاصمة بدون أوراق وأن المحكمة حكمت بإبعاده وأنه غادر لجهة غير معلومة .. هكذا يختطف الناس.
وبعد عدة سنوات قدم أرفع مسئول كرواتي اعترافا علنيا بخطف أبوطلال بإيعاز من المخابرات الأمريكية.
فقد اعترف منسق المخابرات الكرواتية "ميروسلاف توجمان"، ابن الرئيس الكرواتي الراحل فرانيو توجمان، والذي كان مسئولا عن جميع أجهزة المخابرات الكرواتية عندما احتدم الخلاف بينه وبين الأمريكان بعد رفض أمريكا تقديم وثائق لتبرئة الجنرال الكرواتي "أنتي جوتوفينا" الذي يعتبرونه بطلا قوميا في كرواتيا والمطلوب لمحكمة جرائم الحرب في لاهاي لجرائم تتعلق بتصفية عدد من الصرب أثناء عملية تحرير الجيب الكروات في كرايينا عام 95 -ولم يتم اعتقاله إلا في السابع من ديسمبر الجاري فقط-
فاتهم ابن الرئيس الكرواتي الراحل توجمان واشنطن في تصريحات نادرة تقلتها صحيفة الشرق الأوسط يوم 12 سبتمبر 2001 بأن واشنطن خرقت قرار حظر بيع الأسلحة لجمهوريات يوغوسلافيا السابقة والذي فرضه مجلس الأمن الدولي، وأنها هي من قدمت الأجهزة العسكرية المتطورة ومساعدات عسكرية لكرواتيا، بل وشارك بعض الضباط الأميركيين في معركة «العاصفة» عام 1995، عندما تمكن الكروات من تحرير أراضيهم في "كرايينا" من المتمردين الصرب. وعرض صورا لجنرالات أمريكيين كانوا يقفون بجانب المتهم الكرواتي الجنرال أنتي جوتوفينا أثناء معركة العاصفة هذه.
وقدم أيضا ابن الرئيس الكرواتي الراحل في اعتراف صريح "أن أجهزته قامت باعتقال المتهم المصري «أبو طلعت» ((وهو يقصد طلعت فؤاد قاسم)) احد قادة الجماعات الأصولية، عندما دخل كرواتيا متجها إلى البوسنة بجواز سفر دنماركي بناء على طلب من وكالة المخابرات الأميركية وتم تسليمه للسلطات المصرية بشكل سري، كتأكيد على العلاقة الجيدة بين الطرفين".
وهكذا كما تقول العرب "قطعت جهيزة قول كل خطيب"
وكانت المخابرات الدنماركية وغيرها على علم كامل بوقائع ما حدث ولكنهم تستروا عليه رغم أن أبو طلال يعد مواطنا لهم، وقد صرح مسئول سياسي رفيع المستوى لجريدة "POLITIKEN" الدنماركية بتاريخ 6 نوفمبر 1995 أن الـ FBI سلمت طلعت فؤاد قاسم للمخابرات المصرية.
هكذا تكون الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بالمسلمين!!
وعن مسار عملية الاختطاف نقلت في حينه وكالة الأنباء الفرنسية أدق رواية للعملية، ومصدر الدقة أن هذه المعلومات أرسلت لوكالة أنباء العالم الثالث في الدنمارك وهي الوكالة التي كان أبو طلال وقت اختطافه يحمل ضمن أوراقه عقداً معهم لنشر بعض موضوعات مجلة المرابطون على شبكة الانترنت فاختيار هذه الوكالة لتسريب الخبر من الكروات كان مقصودا.
فتقلت فرانس بريس عن وكالة "ثيرد وورلدبرس" الدنمركية ((وكالة أنباء العالم الثالث)): "أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي ”FBI“سلم مصر الناطق باسم "الجماعة الإسلامية" طلعت فؤاد قاسم الذي اختفى منذ أواسط سبتمبر الماضي لدى زيارته كرواتيا.
وأضافت الوكالة نقلاً عن مصادر متطابقة جديرة بالثقة أن طلعت قاسم "38سنة" الذي كان لاجئاً سياسياً في الدانمارك منذ 1992 سلم ليل 22 سبتمبر إلى المصريين في ميناء أنكون الإيطالي.
ولم يعلق مكتب التحقيقات الفيدرالي في واشنطن على هذه الأنباء عندما سألته وكالة فرانس بريس في الأمر أمس . ونفت ثيرد وورلد برس" من جهة أخرى الأنباء التي أوردتها صحف عربية وكرواتية عن تسليم طلعت فؤاد قاسم إلى مصر عبر فرنسا.-وأضافت الوكالة- أن أجهزة الاستخبارات العسكرية الكرواتية أوقفت طلعت فؤاد قاسم الذي وصلها في 12 أيلول إلى زغرب قادماً من أمستردام وسلمته إلى عناصر من ”FBI” في قاعدة بحرية كرواتية -وأضافت- أنه نقل إلى السفينة الحربية "إم إس جونسون" في بحر الأدرياتيك حيث خضع للاستجواب طوال يومين!!( وتابعت أن طلعت قاسم نقل إثر استجوابه إلى السفينة المصرية "السامر"ثم إلى مصر وهو معتقل في مركز للاستخبارات المصرية في مدينة نصر.
ومن الواضح أن القضاء الإيطالي قد توصل الآن في إطار مراجعاته لأنشطة الـ CIA في إيطاليا لصدقية هذه المعلومات واستخدام الأراضي الإيطالية في العملية وهو التحقيق الذي نتمنى متابعته حتى تعرف عائلته وأطفاله الذين كبروا ماذا حل بوالدهم، وأين قبره، وأين شهادة وفاته ومن المسئول عن قتله؟
و المهندس طلعت فؤاد قاسم وهو من مواليد "1957" محكوما عليه بالإعدام من قبل محكمة عسكرية جائرة في ديسمبر 1992 فيما عرف بقضية العائدون من أفغانستان، وكان تسليمه لمصر يعني تعذيبه وقتله وهو ما حدث بالفعل، حيث تم قتله تحت التعذيب بأبشع الوسائل ، ولم يحظ بأي معاملة قانونية، ولم يتم إعلامه رسميا بالحكم الغيابي، ولم يسمح له بالاتصال بعائلته أو أي محام. ولم يتم إيداعه أي سجن عمومي في مصر.. ولا يزال النظام في مصر ينكر حتى الآن الاعتراف بهذه الجريمة رغم أن كل الأطراف قد اعترفت والحقائق تتهاوى وتتكشف كما نرى.
لم يضطلع المهندس طلعت فؤاد قاسم بأي دور عسكري لا في مصر ولا في غيرها، ولم يكن متهما بأي حال في أمريكا وكان يعيش بشكل قانوني في دولة قانون حيث كان يمكن مقاضاته إن كانت هناك ثمة قضية ضده ولم يكن يشكل تهديدا لا لأمريكا ولا لغيرها من البلاد، بل كان من أوائل من واجهوا الأفكار التكفيرية والمغالية في أوروبا وكانت له وقفات ومحاضرات في هذا الموضوع.
وحتى المحكمة العسكرية الجائرة التي حكمت عليه بالإعدام في مصر كانت كل تهمته رئاسته لتحرير مجلة المرابطون!!. ولكن يبدوا أن معلومات الـ CIA عنه لم تكن أفضل من معلوماتهم عن أسلحة الدمار الشامل في العراق!!.
واليوم نرى كل الدول الأوروبية تقريبا قد فتحت تحقيقات في عمليات الاختطاف أو النقل أو الاحتجاز الغير قانوني للسجناء والتي جرت على أراضيهم والذي تم بمعرفة المخابرات الأمريكية خاصة بعد أحداث سبتمبر، فأوروبا وحتى أمريكا نفسها وعلى الرغم مما حدث يعرفون كيف يتطهرون من أدرانهم، وكيف يواجهون أخطاءهم، لأنهم يمتلكون مؤسسات قضائية وإعلامية وبرلمانية وحقوقية فاعلة.
وقد رأينا كيف كان دور الإعلام والمؤسسات الحقوقية في كشف ما جري في أبو غريب وجوانتناموا، وعمليات التجسس، والسجون السرية، والتعذيب.
مجلس الشيوخ الأمريكي أوقف بالأمس العمل بقانون الوطنية رغم أنف بوش، والكونجرس يجبر الإدارة على الانصياع لقانون يحظر ممارسة التعذيب على السجناء في أي مكان، وبوش يجبر على الاعتراف بأن معلوماته عن العراق كانت خاطئة، ويجبر على الاعتراف بالتجسس على المواطنين الأمريكيين، وفي بريطانيا مجلس العموم البريطاني يرفض قوانين بلير المتعلقة بتمديد احتجاز المشتبه بهم لثلاثة أشهر، رغم أنه عندنا في مصر يحبس المتهم ستة أشهر بخلاف الاعتقال الإداري الذي قد يطول لسنوات، والنظام عندنا يعد قانونا جديدا للإرهاب!!.
مجلس أوروبا والبرلمان الأوروبي والبرلمانات الوطنية والقضاء ومنظمات حقوق الإنسان الجميع يحققون في هذه الانتهاكات..
ورأينا كيف أصدر القضاء الإيطالي أوامره باعتقال مدير محطة الـ CIA في إيطاليا و21 من العاملين معه، ورغم أن القرار لن ينفذ إلا أن القضية تتداعى لتكشف المستور وليثبت القضاء المستقل أنه لا يتستر على هذه الممارسات ويقوم بواجبه في حماية الحقوق والحريات العامة ويصون السيادة الوطنية لهذه البلاد. وهنا تكمن قوة هذه المؤسسات الديمقراطية التي تتمتع بالاستقلال ، وسيادة القانون
هذه مجتمعات وأنظمة غير صماء كما هي حال النظام البوليسي في مصر، الذي يخطف ويعذب ويقتل ويزور ويلفق ولا يجرؤ أحد على الكلام.
إن اختطاف أبو طلال وقتله بهذه الطريقة البشعة وإنكاره حتى الآن، يؤكد أن سياسة الاختطاف والتعذيب والقتل التي انتهجتها المخابرات الأمريكية وحلفائها في المنطقة وعلى رأسهم النظام المصري هي سياسة قديمة ولم تكن وليدة أحداث سبتمبر 2001، بل ربما مثل هذه السياسات وغيرها من الممارسات الغير قانونية هي التي أرسلت الإشارات السلبية التي التقطتها بعض الأطراف الإسلامية وخلصت منها إلى أن أمريكا وحلفائها لا يحترمون أي قانون وهو في تقديري من أسوأ ما ساهم في تردي الأمور وتنامي الشعور المعادي لأمريكا، وخلق الثارات والمبررات التي قادت للوضعية التي وصلنا إليها اليوم.
ومن هنا ينبغي أن نثمن الدور الذي يقوم به الآن حماة العدالة والحقوق سواء في أمريكا أو أوروبا أو في بلادنا وعلى رأسهم نادي القضاة في مصر.
فهذا النضال الحقوقي لحماية الحريات وحقوق الإنسان بما فيهم الإنسان المسلم يعكس تنامي الشعور الإنساني العالي الذي بدأ يشكل قوة في الرأي العام الغربي ترفض الممارسات السرية لهذه الأجهزة التي ثبت أنها أفسدت أكثر مما أفادت.
إننا ننتظر انتصارا للحقيقة والعدالة أن يبادر النظام في مصر بوضع حد للغموض الذي اكتنف العديد من حالات الاختطاف وعلى رأسها اختطاف المهندس طلعت فؤاد قاسم، وأن يسارع بالتطهر هو الآخر من هذه الجرائم بإعلان الحقيقة والاعتذار عن ما حدث.
وبدون ذلك فسوف تبقى قضايا هؤلاء الضحايا حية في ضمائر الأحرار في العالم لا يستطيع أحد أن يئدها أو يطمسها، مهما طال الزمن.