إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ًما بعوضة فما فوقها فأما اللذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم و أما اللذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا}[ البقرة / 26 ]
لطالما نظر الإنسان الى البعوضة على أنها مخلوق تافه ، فهي من أصغر ما يشاهده بعينه المجردة و في حياته اليومية ، و لكن الله سبحانه يذكرها في كتابه العظيم و من دون أي إستحياء .
صورة لرأس البعوضة تظهر إبداع الخالق جل جلاله
سبب نزول هذه الآية الكريمة هو سماع اليهود في المدينة المنورة لآيتين من القرآن الكريم يضرب الله فيهما المثل للمشركين ؛ مرة ًبالعنكبوت في قوله عز و جل : { كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ًوإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } ، و مرة ًبالذباب في قوله عز و جل : { إن اللذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ًو لو اجتمعوا له و إن يسلبهم الذباب شيئا ًلا يستنقذوه منه ضعف الطالب و المطلوب } ، حيث كان اليهود قد اتخذوا من ورود هذه الأمثال منفذا ً للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن ، بحجة أن الله لا يذكر مثل هذه الأشياء الخسيسة في كلامه ، فجاءت هذه الآية دفعا ًلهذا الدس و بيانا ًلحكمة الله في ضرب الأمثال ، فالله سبحانه و تعالى رب الصغير و رب الكبير و خالق البعوضة و خالق الحوت ، و المعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الحوت ، إنها معجزة الحياة .
و العبرة في الخلق ليست بالحجم و بالشكل ، فالبعوضة – على صغر حجمها – فيها من ابداع الخالق جل جلاله ما يذهل الألباب ، و هذه بعض من الحقائق المكتشفة عن البعوضة :
* إن في رأس البعوضة مئة عين ، و لو كبر رأس البعوضة بالمجهر الإلكتروني لرأينا عيونها المئة على شكل خلية النحل ، و في فمها ثمان و أربعون سنا ً، وفي صدر البعوضة ثلاثة قلوب ؛ قلب مركزي و قلب لكل جناح .
* تمتلك البعوضة جهازاً لا تمتلكه الطائرات الحديثة و هو عبارة عن مستقبلات حرارية ، حيث أن البعوضة لا ترى الأشياء بأشكالها و ألوانها بل بحرارتها ، و حساسية هذا الجهاز هي واحد بالألف من درجة الحرارة المئوية !
هكذا ترى البعوضة الأشياء
* تمتلك البعوضة جهازا ًلتحليل الدم ، فليس كل دم مناسب لها ، فقد ينام طفلان على سرير واحد ، و في الصباح تجد جبين أحدهما مليئا ًبلسعات البعوض ، أمّا الثاني فلا تجد أثرا ًللسعات البعوض عليه .
* تمتلك البعوضة جهازا ًللتخدير ، فهي تخدر موضع اللسع حتى لا يشعر بها الشخص فيقتلها أثناء امتصاصها للدم ، و عندما يزول أثر المخدر يشعر الشخص بألم اللسع .
* تمتلك البعوضة جهازا ًلتمييع الدم الذي تمتصه من الإنسان ، حتى يتيسر له المرور عبر خرطومها الدقيق ، و حتى تمنع تخثر الدم في منطقة الامتصاص عندما يفرز الجسم أنزيمات التخثر !
* للبعوضة خرطوم فيه ست سكاكين ؛ أربع سكاكين تحدث في جلد الملدوغ جرحا ًمربعا ًيصل الى وعاء دموي ، و السكينتان الخامسة و السادسة تلتقيان لتكوّنا أنبوبا ً لامتصاص الدم .
* البعوضة مزودة بجهاز شم تستطيع من خلاله شم رائحة عرق الإنسان من على بعد يصل الى 60 كم .
* في أرجل البعوضة مخالب تستخدمها اذا أرادت الوقوف على سطح خشن ، و لها محاجم إذا أرادت أن تقف على سطح أملس .
إن التأمل في تصميم البعوضة البالغ التعقيد و الإتقان يدرك مدى عظمة ذكر الله للبعوضة في كتابه و من دون أي استحياء ، و يدرك أيضا ًسبب اختيار البعوضة بالذات للرد عل افترائات أهل الضلال ، و هو يشعر قبل كل شيء بعظمة الخالق التي تتجلى في هذا المخلوق ...
و لكن هل يتوقف اعجاز هذه الآية القرآنية عند هذه الحدود ... ؟
الإجابة لا ، فاستخدام الضمير المؤنث في كلمة ( فوقها ) بحد ذاته إعجاز ، و ذلك لأن الحقيقة الراسخة هي أن إناث البعوض هي فقط التي تمتص الدماء ، و هي لا تمتصه لكي تتغذى عليه فغذاء البعوض عامة هو خلاصة رحيق الأزهار ، و لكنها تمتصه لأن البويضات التي تحملها أنثى البعوض بحاجة الى بروتين لتكبر ، وهكذا يعدل القرآن باللفظ إلى صيغة تتفق مع الواقع قبل أن يكتشفها الزمان وتعاينها الأجيال .
و لكن ماذا عن دلالة كلمة ( فوقها ) ... ؟
كان الأئمة المفسرين – رحمهم الله جميعا ً– يعتبرون أن لهذه الكلمة معنيان ؛ إما أن تعني كلمة ( فوق ) الزيادة في الحجم ، أي أن الله يضرب المثل بالبعوضة و بما هو أكبر منها حجما ً ، و إما أن تعني الزيادة في الوصف ، أي أن الله يضرب المثل بالبعوضة و بما هو أحقر و أدنى منها ، و لكن حديثا ًو بعد اختراع المجاهر الإلكترونية ، يتضح بأن هذه الكلمة عبارة عن ظرف مكان ، و ذلك بعد إكتشاف الطفيليات و الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش على ظهرها ، فيصبح معنى الآية أن الله تعالى يضرب المثل بالبعوضة و بما يعيش فوقها من كائنات لا نبصرها بعيننا المجردة ...
إن في الإشارة الى و جود هذه الكائنات الحية إعجاز فمن كان يتخيل وجود مثل هذه الكائنات الحية في زمن الرسول عليه الصلاة و السلام ، و كيف يجرؤ أحد على ذلك و هي لا ترى الا ّ بالمجهر الإلكتروني !
و لكن هل يمكن اعتبار هذا جانب من أسباب اختيار الله للبعوضة بالذات لضرب المثل بها ؟
قد يقول قائل : إن وجود هذه الكائنات الحية الدقيقة على ظهر البعوضة ليس أمرا ًمميزا ًلها ، فهناك الكثير من الكائنات التي تشترك في هذا ، و لكن في الحقيقة إن البعوضة لا تحمل فقط البكتيريا و الفيروسات كباقي الكائنات ، فهي تحمل الطفيليات التي هي أرقى رتبة ًمن البكتيريا و الفيروسات ، و تعد أعقد منها بكثير ، حيث يعد البعوض من أشهر الكائنات التي تنقل هذه الطفيليات التي تصيب الإنسان و الحيوان ، و التي هي وراء العديد من الأوبئة التي فتكت بالملايين على مر التاريخ ...
و من أشهر الطفيليات التي تنقلها البعوضة : طفيل الملاريا ( الإسم العلمي : Plasmodium ) ، و طفيل الفلاريا الذي يسبب داء الفيل ( الإسم العلمي : Elephantiasis ) ، و من أشهر الفيروسات التي ينقلها البعوض تلك المسؤولة عن مرض الحمى الصفراء ( fever Yellow ) ، و مرض الحمى المخية (Encephaltis ) ، و مرض أبو الركب أو حمى الدنج (fever Dengue ) ، و مرض الحمى النازفة (fever Hemorrhagic ) ، و كذلك حمى الوادي المتصدع ( rift valley fever ) .
إن المعرفة بوجود هذه الكائنات الحية على ظهر البعوضة و دور البعوضة في نقلها يستحيل أن يدركها أحد قبل اختراع المجهر ، فلم يُعرف دور البعوضة في نقل طفيل الملاريا مثلا ًإلا قبيل بداية القرن العشرين بقليل ، فقد تمكن ( الفونس لافيران ) من معرفة الطفيل المسبب للملاريا عام 1880، وفي عام 1897 اكتشف ( سير رونالدز روز ) انتقال الطفيل عن طريق البعوضة ، وفي عام 1898 تمكن فريق إيطالي من الباحثين من تأكيد دور البعوضة في نقل المرض ، و مما يدل على أن دور البعوضة في نقل الطفيليات كان مجهولا تماما ً أن ًكلمة (ملاريا) إيطالية الأصل وتعني الهواء الفاسد ، و قد اطلق هذا المصطلح على المرض نتيجة للاعتقاد الخاطىء بأن المرض ينتقل للإنسان عن طريق الهواء الفاسد قبل أن يعرف دور البعوضة في نقل الطفيليات المجهرية التي تسببه .
وقبيل بداية القرن العشرين كانت هناك عدة فرضيات تحاول تفسير سبب وباء الحمى الصفراء، وفي عام 1881 افترض ( كارلوس فينلاي ) أن الناقل هو البعوض ، وهو ما أكده ( ميجور والتر) عام 1900 وأثبته ( ويليام جورجاس ) في أول القرن العشرين ، وبالتخلص من البعوض أثناء شق قناة بنما تراجع المرض كثيرا ً، وفي نفس الفترة اكتشف ( باتريك مانسون ) طفيل الفلاريا الذي يسبب داء الفيل وأكد على أن الناقل له هو البعوض كما نقل طفيل الملاريا