«الجوع كافر»..

عدد المساهمات : 292

«الجوع كافر».. مثل يتردد على ألسنتنا كما تتردد الأهازيج والنكات، لكن لا يشعر بمعناه

فوز الغامدي - جدة
تصوير: حياة حفنه

إلا من قرص الجوع بطنه، ودفعه العوز والاحتياج إلى التنقيب في حاويات النفايات عن بقايا خبز جاف، أو أي شيء يسكت عواء البطون الخاوية.. وهذا ما دفع المواطنة أم عامر لنبش القمامة علها تحصل على بقايا طعام تطعمه صغارها، أو قطعة خشب أو أي شيء يمكن بيعه ببضعة ريالات فهذا خير من التسول والتسكع في شوارع جدة. قابلناها وتعرفنا إلى سبب اعتزازها بلقب (نابشة النفايات).. إلى التفاصيل:

«السؤال لغير الله مذلة».. بهذه العبارة البليغة التي تؤكد اعتدادها بنفسها فسرت (أم عامر) سبب تفضيلها البحث في القمامة عما يغنيها عن مدِّ يدِّها للناس، وبقناعة تامة أضافت: «طالما هناك لقمة عيش عالقة على جنبات القمامة لماذا أمد يدي للخلق الذين رزقهم مثلي بيد الله سبحانه وتعالى؟.

متاهات الفقر
ومع الظروف الصعبة التي تمر بها أم عامر، تؤكد أن لنبش النفايات قصةً وسيناريو مختلفاً، توضحه قائلة: بدأت معاناتي عندما انفصلت عن زوجي وكان لديّ أربعة أطفال في حق الرعاية، تنازل عنهم طليقي لينضموا إلى حضانتي، وكان بين الحين والآخر يخصص لنا مبلغاً بسيطاً مع راتب الضمان الذي لا يتعدى 1500 ريال نعيش منه ولله الحمد في نعمة، فكنت أدبر أمري ولم يسبق لي أن مددت يدي لأي شخص، لكن سرعان ما تغير الحال حين توفي طليقي، وأصبحت أم الأيتام لأصارع متاهات الفقر وحدي وأصبحت أهدر الدموع ليل نهار، لكني وجدت أنها لن تنجدني مما أعانيه وأبنائي من نفقات إيجار وكهرباء وفواتير ومتطلبات المدارس والطعام، فضلا عن العلاج، فأنا أعاني من انفصام مزمن في الشخصية منذ ما يقارب الـ20 عاماً؛ عندما توفيت إحدى بناتي وهي ما زالت في المهد، وكان سبب وفاتها ضيق المكان الذي كنا ننام فيه، حيث إنني استيقظت باكراً ذلك اليوم ووجدت ابني الذي كان يبلغ من العمر ثلاثة أعوام قد تحرك ليلاً واستلقى على شقيقته حتى اختنقت وماتت، ودفعت بي تلك الصدمة إلى انفصام في الشخصية.

نبش النفايات
توقفت أم عامر عن الكلام لحظات حبست فيها دمعة حاولت أن تهرب من عينيها، ثم واصلت معاناتها قائلة: بعد أن توفي والد أبنائي وأصبحنا بلا عائل بدأت أكتشف أنني أعاني من اكتئاب ودوار شديد، وصرت أتردد على المستشفيات حتى اكتشف الأطباء معاناتي المزمنة مع المرض النفسي، وبدأت أتعاطى أدوية نفسية أرهقتني كثيراً طوال خمسة أعوام، وازدادت الطامة عندما تزوج ابني وأنجب خمسة أطفال، ونظراً لإعاقته التي يعاني منها في إحدى قدميه أصبحت أعول أسرته أيضاً في المنزل نفسه الذي أعيش فيه، وبعد أن كنت أعول أربعة أصبحت أعول تسعة أبناء، ويبدو أن طريق العناء قد اكتسح عالمي، لذلك قررت أن أغدو في الصباح الباكر لأجمع ما يمكن جمعه من بقايا الطعام في النفايات لأسد ولو جزءاً بسيطاً مما نحتاجه من غذاء، خاصة أننا نعاني من غلاء الأسعار، وبالنسبة لبقايا الخبز الجاف التي أجمعها من النفايات فإنني أقوم ببيعها إلى أصحاب البهائم كعلف لها.

أبنائي لا يعرفون
تواصل أم عامر: كانت البداية قبل ست سنوات، وقتها كان عليّ أن أختار بين مد يدي للناس والتذلل إليهم وتحمل إساءاتهم، أو أن أقوم بنبش النفايات والتقاط ما يصلح فيها لبيعه أو أكله، وكان الخيار الثاني هو ما استقر عليه قلبي، قررت أن أصبح نابشة نفايات بدلاً من سؤال الناس، والتسول في شوارع جدة، ومخالفة الأنظمة. قد تكون هذه المهنة غير لائقة لمواطنة سعودية، لكن هذا ما توفر لي واستطعت من خلاله أن أوفر ما يحتاجه أبنائي وأحفادي، الذين ينتظرون ما أدخل به عليهم دون علمهم شيئاً عن مهنتي التي سهلت لي الكثير في طلب الرزق.
وتضيف: أخشى أن يكتشف أبنائي وجيراني ذلك فأكون وصمة عار عليهم، ليس هذا فحسب، بل إنني أخشى أيضاً أن يرهقني الكبر وضعف النظر وعدم القدرة على تحمل الشمس فأتوقف عن نبش النفايات، فلا يجد أبنائي وأحفادي ما يفي باحتياجاتهم.

وجه الكريم
كانت الدموع كفيلة أن تكشف لنا ما تعانيه هذه السيدة المكافحة المثابرة مع قسوة الأيام، وهذا ما دفعنا لسؤالها عن السبب في عدم لجوئها إلى الجمعيات الخيرية التي توفر المساعدات والمعونات للفقراء والمحتاجين، فأجابت: للأسف، رغم ترددي المستمر كانت الجمعيات توفر لنا كل ثلاثة أشهر بعض المواد الغذائية، لكنها توقفت عن الإرسال، فقررت ألا أسأل إلا وجه الله الكريم.
كما أوضحت أم عامر أن لها شقيقه أرملة دخلها المادي محدود للغاية، لكنها لا تعاني مثلما عانت من ردهات الحياة، وكذلك بقية أشقائها كلهم مسؤول عن أسرته، مفضلة الاعتماد على نفسها في كفاحها لإطعام أسرتها وتوفير طلباتهم التي تزيد يوماً بعد يوم، لهذا صممت على ألا تتخلى عن مهنتها مهما كلف الأمر، وأنها ستظل حتى مماتها تحمل اللقب، لقب (نابشة النفايات)!.